فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشعراوي:

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ}.
بعد أن تكلم الفرقان وفرَق في مسألة القمة والألوهية واتخاذ الولد والشركاء، وبيَّن الإله الحق من الإله الباطل، أراد سبحانه أنْ يتكلّم عن الفرقان في الرسالة، فيحكى ما قاله الكفار عن القرآن {إِنْ هذا} [الفرقان: 4] يعني: ما هذا أي القرآن الذي يقوله محمد {إِلاَّ إِفْكٌ} [الفرقان: 4] الإفك: تعمُّد الكذب الذي يقلب الحقائق، وسبق أن قُلْنا: إن النسبة الكلامية إنْ وافقت الواقع فهي صٍِدْق، وإنْ خالفتْه فهي كذب.
والإفْك قَلْب للواقع يجعل الموجود غير موجود، وغير الموجود موجودًا، كما جاء في حادثة الإفك حين اتهموا عائشة أم المؤمنين بما يخالف الواقع، فالواقع أن صفوان أناخ لها ناقته حتى ركبت دون أن ينظر إليها، وهذا يدل على مُنْتهى العِفَّة والصيانة، وهُمْ بالإفك جعلوا الطُّهْر والعفة عُهْرًا.
ومن العجيب أن هؤلاء الذين اتهموا القرآن بأنه إفك هم أنفسهم الذين قالوا عنه:
{لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31].
فهم يعترفون بالقرآن ويشهدون له، لكن يُتعبهم ويُنغِّص عليهم أن يُنزل على محمد بالذات، فلو نزل فرضًا على غير محمد لآمنوا به.
ومن حُمْقهم أن يقولوا: {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السماء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32].
والمنطق أن يقولوا فاهْدنا إليه، لكنه العناد والمكابرة.
وقوله: {افتراه} [الفرقان: 4] أي: ادعاه، وعجيب أمر هؤلاء، يتهمون القرآن بأنه إفك مُفْترى، فلماذا لا يفترون هم أيضًا مِثْله، وهم أمة بلاغة وبيان؟!
وفي موضع آخر يقول تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وهذا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} [النحل: 103].
وقديمًا قالوا: إنْ كنتَ كذوبًا فكُنْ ذكورًا، وإلا فكيف تتهمون محمدًا أن رجلًا أعجميًا يُعلِّمه القرآن، والقرآن عربي؟
وقوله تعالى: {وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} [الفرقان: 4] الذي قال هذه المقولة هو النضر بن الحارث، ولما قالها رددها بعده آخرون أمثال: عدَّاس، ويسَّار، وأبي فكيهة الرومي، والقرآن يرد على كل هذه الاتهامات: {فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا} [الفرقان: 4] أي: حكموا به والظلم هو: الحكم بغير الحق، والزّور هو: عُدَّة الحكم ودليله. والظلم يأتي بعد الزور، لأن القاضي يستمع أولًا إلى الشهادة، ثم يُرتِّب عليها الحكم، فإن كانت الشهادةُ شهادةَ زور كان الحكم حينئذ ظالمًا.
لكن الحق تبارك وتعالى يقول: {ظُلْمًا وَزُورًا} [الفرقان: 4] وهذا دليل على أن الحكم جاء منهم مُسبقًا، ثم التمسوا له دليلًا.
ثم يقول الحق سبحانه: {وقالوا أَسَاطِيرُ الأولين}.
{وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5)}.
الأساطير: جمع أسطورة، مثل أعاجيب جمع أعجوبة، وأحاديث جمعُ أُحْدوثة، والبكرة أو النهار، والأصيل آخره، والمعنى أنهم قالوا عن القرآن: إنه حكايات وأساطير السابقين {اكتتبها} [الفرقان: 5] يعني: أمر بكتابتها. وهذا من ترددهم واضطراب أقوالهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم أُميٌّ لا يقرأ ولا يكتب، وقولهم: {فَهِيَ تملى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان: 5] أي: باستمرار ليُكرِّرها ويحفظها.
ويردُّ القرآن عليهم: {قُلْ أَنزَلَهُ الذي يَعْلَمُ السر}.
{قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6)}.
{أَنزَلَهُ} [الفرقان: 6] أي: القرآن مرة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا {الذي يَعْلَمُ السر فِي السماوات والأرض} [الفرقان: 6] فلا تظن أنك بمجرد خَلْقك قدرْتَ أن تكشف أسرار الله في كونه، إنما ستظل إلى قيام الساعة تقف على سر، وتقف عند سر آخر.
لماذا؟ لأن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يبطل هذه المدعيات، ويأتي بأشياء غيبية لم تكن تخطر على بال المعاصرين لمحمد، ثم تتضح هذه الأشياء على مَرَّ القرون، مع أن القرآن نزل في أُمة أمية، والرسول الذي نزل عليه القرآن رجل أمي، ومع ذلك يكشف لنا القرآن كل يوم عن آية جديدة من آيات الله.
كما قال سبحانه: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق} [فصلت: 53].
والحق تبارك وتعالى يكشف لرسوله صلى الله عليه وسلم شيئًا من الغيبيات، ليراها المعاصرون له ليلقم الكفارَ الذين اتهموه حجرًا، فيكشف بعض الأسرار كما حدث في بدر حيث وقف النبي صلى الله عليه وسلم في ساحة المعركة بعد أن عرف أن مكة ألقتْ بفلذات أكبادها وسادتها في المعركة، وقف يشير بعصاه إلى مصارع الكفار، ويقول: «هذا مصرع أبي جهل، وهذا مصرع عتبة بن ربيعة..» الخ يخطط على الأرض مصارع القوم.
ومَنِ الذي يستطيع أن يحكم مسبقًا على معركة فيها كَرٌّ وفَرٌّ، وضَرْب وانتقال وحركة، ثم يقول: سيموت فلان في هذا المكان.
والوليد بن المغيرة والذي قال عنه القرآن {سَنَسِمُهُ عَلَى الخرطوم} [القلم: 16] يعني: ستأتيه ضربة على أنفه تَسِمُه بسِمَة تلازمه، وبعد المعركة يتفقده القوم فيجدونه كذلك.
هذه كلها أسرار من أسرار الكون يخبر بها الحق تبارك وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم، والرسول يخبر بها أمته في غير مظنَّة العلم بها.
ومن ذلك ما يُروى من أن ابنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تزوجتا من ولدين لأبي لهب، فلما حدثت العداوة بينه وبين رسول الله أمر ولديْه بتطليق ابنتي رسول الله، وبعدها رأى أحد الولدين رسول الله ماشيًا، فبصق ناحيته، ورأى رسول الله ذلك فقال له: «أكلك كلب من كلاب الله». فقال أبو لهب بعد أن علم بهذه الدعوة: أخاف على ولدي من دعوة محمد.
وعجيب أنْ يخاف الكافر من دعوة رسول الله، وهو الذي يتهمه بالسحر وبالكذب ويكفر به وبدعوته.
ولما خرج هذا الولد في رحلة التجارة إلى الشام أوصى به القوم أن يحرسوه، ويجعلوا حوله سياجًا من بضائعهم يحميه خشية أن تنفذ فيه دعوة محمد، وهذا منه كلام غير منطقي، فهو يعلم صدق النبي صلى الله عليه وسلم وأنه مُرْسَل من عند الله، لكن يمنعه من الإيمان حقده على رسول الله وتكبّره على الحق.
وخرج الولد في رحلة التجارة ورغم احتياطهم في حمياته هجم عليه سبع في إحدى الليالي واختطفه من بين أصحابه، فتعجبوا لأن رسول الله قال: «كلب من كلاب الله» وهذا أسد ليس كلبًا. قال أهل العلم: ما دام أن رسول الله نسب الكلب إلى الله، فكلب الله لا يكون إلا أسدًا.
فالمعنى: قل يا محمد في الرد عليهم ولإبطال دعاواهم: {أَنزَلَهُ الذي يَعْلَمُ السر فِي السماوات والأرض} [الفرقان: 6] وسوف يفضحكم ويُبطِل افتراءكم على رسول الله من قولكم إفك وكذب وافتراء وأساطير الأولين، وسوف يُخْزِيكم أمام أعْينِ الناس جميعًا.
وعلى عهد رسول الله قامتْ معركة بين الفُرْس والروم غُلبت فيها الروم، فحزن رسول الله لهزيمة الروم؛ لأنهم أهل كتاب يؤمنون بالله وبالرسول، أما الفرس فكانوا كفارًا لا يؤمنون بالله ويعبدون النار وغيرها. فمع أنهما يتفقان في تكذيبهم لرسول الله، إلا أن إيمان الروم بالله جعل رسول الله يتعصب لهم مع أنهم كافرون به، فعصبية رسول الله لا تكون إلا لربه عز وجل.
فلما حزن رسول الله لذلك أنزل الله تعالى عليه: {الم غُلِبَتِ الروم في أَدْنَى الأرض وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المؤمنون بِنَصْرِ الله يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ العزيز الرحيم} [الروم: 15].
فأيُّ عقل يستطيع أنْ يحكم على معركة ستحدث بعد عدة سنوات؟ لو أن المعركة ستحدث غدًا لأمكن التنبؤ بنتيجتها، بناءً على حساب العَدد والعُدة والإمكانات العسكرية، لكن مَنْ يحكم على معركة ستدور رحاها بعد سبع سنين؟ ومَنْ يجرؤ أن يقولها قرآنًا يُتْلَى ويُتعبَّد به إلى يوم القيامة. فلو أن هذه المدة مرَّت ولم يحدث ما أخبر به رسول الله لكفَر به مَنْ آمن وانفضَّ عنه مَنْ حوله.
إذن: ما قالها رسول الله قرآنًا يُتْلَى ويُتعبَّد به إلا وهو واثق من صِدْق ما يخبر به؛ لأن الذي يخبره ربه عز وجل الذي يعلم السرَّ في السموات والأرض؛ لذلك قال هنا الحق سبحانه وتعالى: {قُلْ أَنزَلَهُ الذي يَعْلَمُ السر فِي السماوات والأرض} [الفرقان: 6].
ومن العجيب أن ينتصر الروم على الفُرْس في نفس اليوم الذي انتصر فيه الإيمان على الكفر في غزوة بدر، هذا اليوم الذي قال الله تعالى عنه: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المؤمنون بِنَصْرِ الله} [الروم: 45].
وما دام أن الذي أنزل القرآن هو سبحانه الذي يعلم السِّر في السماوات والأرض، فلن يحدث تضارب أبدًا بين منطوق القرآن ومنطوق الأكوان؛ لأن خالقهما واحد سبحانه وتعالى فمن أين يأتي الاختلاف أو التضارب؟
ثم يقول سبحانه: {إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا} [الفرقان: 6] فما مناسبة الحديث عن المغفرة والرحمة هنا؟ قالوا لأن الله تبارك وتعالى يريد أن يترك لهؤلاء القوم الذين يقرعهم مجالًا للتوبة وطريقًا للعودة إليه عز وجل وإلى ساحة الإيمان.
لذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم لمن أشار عليه بقتل الكفار: «لعلَّ الله يُخرِج من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا».
وكان الصحابة يألمون أشد الألم إنْ أفلتَ أحد رءوس الكفر من القتل في المعركة، كما حدث مع خالد بن الوليد وعمرو بن العاص قبل إسلامهما، وهم لا يدرون أن الله تعالى كان يدَّخِرهم للإسلام فيما بعد.
فقوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا} [الفرقان: 6] حتى لا يقطع سبيل العودة إلى الإيمان بمحمد على مَنْ كان كافرًا به، فيقول لهم: على رغم ما حدث منكم. إنْ عُدْتم إلى الجادة وإلى حظيرة الإيمان ففي انتظاركم مغفرة الله ورحمته.
والحق تبارك وتعالى يُبيِّن لنا هذه المسألة حتى في النزوع العاطفي عند الخَلْق، فهند بنت عتبة التي أغرتْ وَحْشِيًا بقتل حمزة عم رسول الله وأسد الله وأسد رسوله، ولم تكتف بهذا، بل مثَّلتْ به بعد مقتله ولاكَتْ كبده رضي الله عنه، ومع ذلك بعد أنْ أسلمتْ وبايعتْ النبي صلى الله عليه وسلم نُسيت لها هذه الفعلة وكأنها لم تكُنْ.
ولما قال أحدهم لعمر بن الخطاب: هذا قاتل أخيك يشير إليه والمراد زيد بن الخطاب، فما كان من عمر إلا أن قال: وماذا أفعل به وقد هداه الله للإسلام؟. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1)}.
تكلم سبحانه في هذه السورة على التوحيد لأنه أقدم وأهمّ، ثم في النبوّة لأنها الواسطة، ثم في المعاد لأنه الخاتمة.
وأصل تبارك مأخوذ من البركة، وهي: النماء والزيادة، حسية كانت أو عقلية.
قال الزجاج: تبارك تفاعل، من البركة.
قال: ومعنى البركة: الكثرة من كل ذي خير، وقال الفراء: إن تبارك وتقدّس في العربية واحد، ومعناهما: العظمة.
وقيل: المعنى تبارك عطاؤه أي: زاد وكثر.
وقيل: المعنى دام وثبت.
قال النحاس: وهذا أولاها في اللغة، والاشتقاق من برك الشيء إذا ثبت، ومنه برك الجمل، أي: دام وثبت.